يوم رحلتِ الشجاعةُ العزلاء
وحَّدَت جهامةُ الحزنِ العميق قسماتِ وجوه اللبنانيين، توَّ إذاعة نبأ انتقال البطريرك صفير إلى الدار الآخرة، فصلَّوا لراحة نفسه وَفقَ معتقداتهم المختلفة، يقينًا منهم بأن الله يتقبّل الدعاء الصادق، أيًّا يكن شكله.
وحَّدَت جهامةُ الحزنِ العميق قسماتِ وجوه اللبنانيين، توَّ إذاعة نبأ انتقال البطريرك صفير إلى الدار الآخرة، فصلَّوا لراحة نفسه وَفقَ معتقداتهم المختلفة، يقينًا منهم بأن الله يتقبّل الدعاء الصادق، أيًّا يكن شكله.
قام المجوس باكرًا قبل كوكب الصبح... وحولهم العذارى الحكيمات يرتقبن كيف يقمطن العريس الآتي من أرض الفناء يهتفن بأصوات شروبيمية المتشح بنور شحيميته ها إنّ السماء التمعت نجومها لدخول مار نصر الله العاشق لله في خدر الابن هلمّ نرتقبه مع الفجر خافقًا متهلّلًا تغبطه السرافيم بأجنحتها الستة مرتفعًا على غمامة من نور.
بدأت المسألة البحرية في شهر تشرين الأوّل من العام 2006 حين بدأ التفاوض بين لبنان وقبرص حول حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة بين البلدين واقتصر الوفد اللبناني حينها على مدير عام النقل البري والبحري في وزارة الأشغال العامة والنقل وبرفقته موظّف من نفس الوزارة.
رحل البطريرك. وكأنّه لم يرحل. صفير استعدّ للموت. هيّأ نفسه لمثل هذه اللحظة. حوّلها إلى حدث، إلى موقف، فعبرة. بها توّج مسيرته بتألّق كبير. أن يحوّل المرء عن قصد وإدراك لحظة وفاته إلى حدث فهذه أمثولة للتّاريخ. مذ تخلّى عن سدّة البطريركة، بدأ يخطّ لنفسه مسيرة الرّحيل. بل قل بدأ يخطّ وهج حضوره على صفحات الخلود. خطير دهاء هذا البطريرك. خطير بحنكته الطّاهرة.
وارى الثرى، تغمدّه الرب بواسع رحمته... جرأة أن نكتب عن صاحب الغبطة والنيافة البطريرك نصررالله صفير وهو تاريخ من التسامح والمصالحة والتقوة والتؤدة. لقد قال ما قاله ورحل... وقد قالوا ما قالوا عنك؛ رمزٌ للنزاهة وللكرامة وللتواضع، راعي الحرّية والعدالة، عنوانُ السيادة، المؤمن والمحبّ والمسالم، الذّي تمثّل بكلمة الرب دائمًا... إن أنصفوك لذكروك خيرًا في قولهم ولعملوا خيرًا من قولك.
رحمك الله أيها الكاردينال البطريرك العظيم، سوف تُدفن بأعمالك في أعماق اللبنانيين وسيبقى ذكرك خالدًا.
نادرًا ما لا يكون فائض التكريم ثقيلًا على الرأي العام اللبناني المحكوم هذه الأيام بمزاج الاتهام للسياسة والسياسيين، وذا حساسية مفرطة لجهة التشكيك بفضائل القيادات. غير أن عظمة البطريرك مار نصر الله بطرس صفير كوّنت لها في أسبوع رحيله محطّة خاصة في الوجدان، فأحيَت فيه توقًا إلى دوره، على الرغم من إصابة الرأي العام اللبناني بالتلف.
لا البطريرك صفير مات، ولا الإمام الأوزاعي مات، ولا ابن عربي مات، كلّ هذه القامات الروحية الخلقية تبقى حيّة في قلوب الناس وتبقى قدوة ضد جحيم الشر الذي يجتاح لبنان هذه الأيام.
عندما شاع خبر مرض البطريرك مار نصرالله بطرس صفير ورحلته الأخيرة إلى المستشفى، كنت أقلّب صفحات كتابٍ ألّفته قبل ثلاثين سنة حول مجمع اللويزة الماروني، الذي انعقد سنة 1736.
كنت منهمكًا في إعداد مقالة شهر أيار عن ملفّ اللّاجئين السوريين، الذي تشتَّتَتْ مرجعيته وطغت عشوائية تناوله على خطورته، عندما هاتفني المعلّم حسن الرفاعي وقال لي بأسلوبه المحبّب الراقي: